رواية انت لي الحلقة 45
و بعد نحو الساعة اصطحبني إلى المنزل، و تركنا أمّي مع رغد… و التي كانت تغط في نومٍ عميقٍ بعد جرعةٍ من المخدّر…
وليد لم يتحدّث معي طوال الوقت… بل كان ذهنه شارداً لأبعد حدود… و فور وصولي للمنزل ذهبتُ إلى غرفتي مباشرة و أخذتُ أبكي إلى أن تصدّع رأسي فأويتُ إلى الفراش…
عندما استيقظتُ لم أكن بحالة أفضل إلا قليلاً و قرّرتُ أن أخبر وليد بتفاصيل ما حصل البارحة… حتى تتضح له الحقيقة و يتوقـّف عن توجيه الاتهام الفظيع لي.
لم أكن قد نمتُ غير ساعةٍ أو نحو ذلك… و توقّعتُ أن أجد وليد مستلق ٍ على سريره في غرفته و لكنني لم أجد له أثراً في المنزل…
و استنتجتُ أنه عاد إلى المستشفى…
أنا لا أدري ما القصّة التي قصّتها رغد عليه للحادث بيد أنني لا استبعد أن تكون قد أوهمته بأنني دفعتُ بها عمداً من أعلى الدرج…
لكن.. و الله يشهد على قولي… كان ذلك حادثاً غير مقصودٍ إطلاقا… و لو كنتُ أتوقّع أن ينتهي بها الأمر إلى غرفة العمليات لما كنتُ اعترضتُ طريقها و لتركتها تحمل هاتف زوجي إليه و أنا أتفرّج…
(زوجي) كلمة لم أعرف معناها… كما لا أعرف حقيقة الوجه الآخر لوليد
فالنظرات و التهديدات و الطريقة الفظّة العنيفة التي عاملني بها هذا الصباح تكشف لي جوانب مرعبة من وليد لم أكن لأتوقّعها أو لأصدّق وجودها فيه… و قد بدأتْ بالظهور الآن…
هذا الرجل قتل شخصاً عندما كان في قمّة الغضب… و مهما كان السبب فإن الخلاصة هي أن الغضب قد يصل بوليد إلى حد القتل !
اقشعرّ بدني من الفكرة البشعة فأزحتها بعيداً عن تفكيري هذه الساعة و حاولتُ شغل نفسي بأشياء أخرى… كترتيب و تنظيم أثاث المنزل و ما إلى ذلك…
كنتُ قد رأيتُ فراش وليد مبعثراً حين دخلتُ غرفته بحثاً عنه… و الآن عدتُ إليها لأرتّب الفراش و أعيد تنظيم الغرفة… كالمعتاد
و أثناء ذلك، و فيما أنا أرفع إحدى الوسائد رأيتُ شيئاً غريباً !
كانت ورقة فوتوغرافية ممزّقـَة… و أجزاؤها موضوعة تحت الوسادة
بفضو
لٍ جمعتُ الأجزاء و شرعتُ بإعادة تركيبها إلى أن اكتملتْ الصورة الفوتوغرافية
فظهرتْ صورةٌ لطفلةٍ تبتسم و بيدها دفتر رسم للأطفال و أقلام تلوين…
و من التاريخ اتّضح لي أنها التُقِطتْ قبل نحو 13 عاماً…
الأمر أثار فضولي الشديد و تعجّبي… لـِمَ يضعُ وليد صورة قديمة و ممزّقة لطفلةٍ ما تحت وسادته ؟؟
لكن لحظة !
دقّقتُ النظر إلى ملامح تلك الطفلة… و إذا لم تكن استنتاجاتي خاطئةً فأعتقد أنني عرفتُ من تكون…. !
دعوني وحدي رجاء ً !
أنا في حالة ذهول … و لا أريد قول المزيد !
~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~رواية انت لي الحلقة 45
ظلّتْ رغد نائمة لثلاث ساعات أخرى بعد المنوّم و أنا و الخالة إلى جانبها…
كنتُ أراقب أي تغيّر يطرأ عليها… الصغيرة كانت تهذي أثناء نومها و ذكرتْ أمّي أكثر من مرّة… و كانتْ في كل مرّة… تطعن قلبي دون أن تدرك…
تركناها تنام دون أي محاولةٍ لإيقاظها… إذ كنتُ في خشيةٍ من أن تداهما الحالة العصبية الجنونية تلك مرّة أخرى…
و عندما فتحتْ عينيها تلقائيا ً تسارعتْ نبضات قلبي قلقاً… و تشدّقت بها عيناي مستشفـّتيـْن حالتها… بدتْ هادئة و مستسلمة… نظرتْ من حولها و لم تُظهر أية ردّة فعل … كانت متقبّلة لوجودنا أنا و الخالة إلى جوارها… تركناها بصمتٍ في انتظار أي كلمةٍ أو حركة ٍ أو إشارة ٍ منها، و لمّا لم يصدر عنها شيءٌ، و للهفتي في الاطمئنان عليها، تجرّأتُ و سألتها بتردد:
” صحوة حميدة صغيرتي… هل أنتِ بخير؟ “
هربتْ رغد من نظراتي و رأيتُ فمها يتقوّس للأسفل… لكنها تمالكتْ نفسها و لم تبكِ…
هنا حضر الطبيب المشرف على رعايتها… لتفقدها و قد تجاوبتْ مع أوامره و أخبرته أنها لم تعد تشعر بالألم. تحدث إليها مشجعا و طمأنها إلى أنها تحسّنتْ كثيرا و حاول حثـّها على تناول الطعام، لكنها بطبيعة الحال رفضتْه.
على الأقل أنا مطمئنٌ أكثر الآن إلى أنها لم تُجنّ، و أن حالتها النفسية الفظيعة تلك قد زالتْ… و أن ضغط دمها مستقر و الحمد لله…
بعد خروج الطبيب التفتُّ إليها مجدداً و سألتها :
” صغيرتي… أخبريني … هل تشعرين بتحسّن؟ “
كنتُ متلهفاً جدا لسماع أي كلمةٍ مطمئنةٍ منها هي… فأنا لا يهمّني فقط أن يكون وضعها الصحي مستقراً… بل أريد أن تشعر هي بأنها بخير و تخبرني بذلك…
حرّكتْ رغد يدها اليسرى نحوي فأسرعتُ بضمها بين أصابعي مؤازرة ً… و قلتُ :
” أنتِ بخير… ألستِ كذلك؟ …”
كانت تنظر إليّ و لكنها لم تجب.. بدتْ غارقة في بئر من الحزن… رققتُ لحالها و قلتُ مشجعا:
” كلّميني يا رغد أرجوكِ… قولي لي أنكِ بخير…؟؟ أنا أحتاج لأن أسمع منكِ… “
نطقتْ رغد أخيرا :
” وليد “
شددتُ على يدها و قلتُ بلهفة :
” نعم صغيرتي… هنا إلى جانبك… أكاد أموتُ قلقا عليكِ… أرجوكِ… أخبريني أنكِ بخير… طمئنيني عليكِ و لو بكلمةٍ واحدةٍ… قولي لي أنّك بخير و أفضل الآن… هل أنتِ كذلك؟؟ “
قالت رغد أخيرا… و هي تقرأ التوسل الشديد في عينيّ :
كررتُ بامتنان :
” الحمدُ لله… الحمدُ لله “
و عقّبتْ الخالة :
” الحمد لله “
حرّكتْ رغد يدها اليسرى نحو رجلها المصابة و بأطراف أصابعها ضربتْ فوق الجبيرة… ثم سألتْ :
” كم ستظلّ هذه ؟ “
كان الطبيب قد أخبرني مسبقا بأنها ستظلّ بالجبيرة بضعة أسابيع… و خشيتُ أن أذكر ذلك فتصاب الفتاة بإحباطٍ هي في غنىً تام عنه… فقلتُ :
” ليس كثيراً كما أكّد الطبيب… كما أنك ِ ستغادرين المستشفى إن شاء الله خلال أيام”
و الجملة طمأنتها قليلا… فصمتتْ ثم عادتْ تسأل :
” و الجامعة ؟ “
قلتُ :
” سأتّصل بهم و أخبرهم عن أمركِ “
قالت ْ و هي تستدير نحو الخالة ليندا :
” و السفر ؟؟ “
فأجابتْ الخالة :
” نؤجّله إلى أن تتحسّن صحّتك و تستعيدين عافيتك إن شاء الله “
فأخذتْ رغد تطيل النظر نحو يدها رجلها المصابتين… و تزفر التنهيدة خلف الأخرى بمرارة…
مددتُ يدي مرّة أخرى و أخذتُ أمسح على جبيرة يدها المصابة مواسياً و أنا أقول:
” اطمئنّي صغيرتي… بلاءٌ و سينفرج بإذن الله… ستتعافين بسرعةٍ بحوله تعالى “
قالتْ و كأن في ذهنها هاجس ٌ تريد أن تستوثق منه :
قلتُ بسرعة:
” طبعا رغد… إصابتكِ ليستْ لهذه الدرجة “
فقالتْ متشكّكة :
” ألستَ تقول هذا لتهدئتي فقط ؟ لا تخف ِ عنّي شيئا “
أجبتُ مؤكداً :
” أبدا يا رغد.. أقسم لك أن هذا ما قاله الطبيب… هل كذبتُ عليكِ من قبل ؟؟ “
و ليتني لم أسأل هذا السؤال… لأنها نظرتْ إليّ نظرةً قويّةً ثم قالتْ :
” أنت أدرى “
ابتلعتُ نظرتها و جملتها… و قد حضر بذهني كيف كانتْ في العام الماضي تنعتني بالكذاب، لأنني أخلفتُ بوعدي لها بألاّ أسافر دون علمها و سافرتُ مضطرا…
الخالة ليندا قالتْ مؤيدة :
” أكّد الطبيب ذلك على مسمعٍ منّي أنا أيضاً. ستشفين تماماً بمشيئة الله… تحلّي بالصبر و قوّي أملكِ بنيّتي “
و سرتْ بعض الطمأنينة في قلب الصغيرة و إن بدا على وجهها شيء من القلق و هي تقول :
” الحمد لله… المهم أن أعود و أمشي طبيعياً… و أرسم من جديد “
و فهمتُ أن جلّ خوف رغد هو من أن تصاب بإعاقة لا قدّر الله في رجلها أو يدها… و صرفتُ الوقت في طمأنتها و تشجيعها و رفع معنوياتها….
قضيتُ النهار بكامله مع رغد… ما بين قراءة القرآن و الاستماع لتلاوته عبر التلفاز… و مراقبة و دعم رغد بين الحين و الآخر… و اطمأننتُ و لله الحمد إلى زوال حالة الهذيان الغريبة التي انتابتها صباحاً
و رغم الإرهاق الذي سيطر عليّ قاومتُ و تابعتُ إظهار صمودي و تماسكي و تأقلمي مع الوضع… من أجلها هي… من أجل أن تصمد و تتشجع و تستمد القوة منّي… و إن كان داخلي في الحقيقة منهاراً بشدّة…
في وقت الزيارة حضر صديقي سيف و أحضر زوجته لزيارة رغد و وجدتها فرصةً جيّدة لتجد رغد من يواسيها قليلاً … و لكي استمدّ بدوري بعض الدعم من صديقي الحميم و لأشكره و اعتذر إليه و إن كنتُ أعلم أنّ سيف لم يكن لينتظرهما… بقي سيف و زوجته معنا لدقائق معدودةٍ و قبيل مغادرتهما سألتُ سيف أن يصطحب خالتي من جديد إلى المنزل على أن يعود بها ليلا مع بعض حاجيات رغد…
“و ماذا عنك يا رجل ؟ ألا تريد قسطاً من الراحة ؟؟ “
سألني سيف و نحن نقف في الممر بجوار غرفة رغد و أنا مستندٌ على الجدار أنشد دعمه… و هو أمامي يرى آثار الإرهاق مستنجدةً على وجهي و جسدي…
أجبتُ :
” عندما تعود بالخالة ليلاً سأذهب للنوم… طلبتُ منها أن تبقى مرافِقةً لرغد طوال الليل… و أبقى أنا طوال النهار “
سألني سيف :
” و ماذا عن زوجتك ؟ “
” آه… اسكتْ يا سيف و لا تأتِ بذكرها داخل المستشفى… لا تريد رؤيتها و لا حتّى سماع اسمها… آه لو تعرف ما الذي حصل لها صباحاً… جُنّ جنونها حين رأتها…. تنفر منها بشكلٍ مفزعٍ يا سيف… يبدو أنها من تسبّب في الحادث… بشكلٍ أو بآخر… و لو لم أتمالك نفسي اليوم لكنتُ … “
و صمتُ… إذ لم أشأ أن أعبّر عن مشاعر الغضب المجنونة أمام سيف… لكنني أعرف بأنه يدرك كل شيء…
قلتُ :
” ما كدتُ أصدّق أنها هدأتْ أخيراً… و لازلتُ متخوفاً من أنها قد تنهار في أيةِ لحظةٍ و لستُ مطمئناً لتركها وحدها مع الخالة… لكن… إنها مستشفى و لها قوانينها و أنظمتها و بقائي هنا طوال الوقت أمر غير لائق “
بعد صمت ٍ قصير سألني :
” كيف وقعتْ ؟ “
أجبتُ :
” لا أعرف يا سيف. تشاجرتْ مع أروى… هما و منذ أيام متخاصمتان… تشاجرتا معا و كانتا تقفان على درجات السلّم… و وقعتا سويةً… لكنّ الإصابة اختارتْ رغد “
و تنفستُ عميقاً ثم قلتُ :
” لم يحدث أن تعاركتا بالأيدي و لكن… يبدو أن هذا ما حصل على السلّم… فوقعتا… و أصيبتْ رغد “
تنهدتُ و واصلتُ :
” أنا خائفٌ عليها يا سيف… خائفٌ أن يسبّب الجرح مشكلةً مزمنة في رِجـْـل الفتاة… أو يدها”
قال سيف مباشرة:
” لا قدّر الله… تفاءل بالخير يا رجل “
تنهدتُ مجددا و قلتُ :
” الأمر بالنسبة لي… قضاء أحمد الله على لطفه فيه… و الطبيب طمأننا جداً… لكن… يظلّ خوفي الأساسي على الفتاة و نفسيتها… إنها صغيرةً و ضعيفةً جدا… لن تحتمل شيئاً كهذا… بل إنّ مجرّد تفكيرها في احتمال وقوعه يرسلها إلى الجحيم… الصغيرة قد لاقتْ من البلاء الكثير حتى اليوم… منذ الطفولة يا سيف و هي تعاني…
اليتم… و عمّار القذر… و فقد والديّ… و الحرب… و التشرّد و الغربة و الوحدة… كل هذا… على قلب فتاة صغيرةٍ بريئةٍ هشّةٍ… قل لي يا سيف من يحتمل ذلك؟؟ و بعد هذا كسرٌ و جبرٌ و عكّاز… و إعاقة… إن عقل فتاتي يكاد يزول يا سيف… بل إنه قد بدأ يزول فعلاً “
وقبضتُ يدي بشدة و في ألم مرير…
سيف أمسك بقبضتي مشجعاً و حين شعرتُ بدعمه أطلقت ُ العنان لصدري أكثر ليبوح بمخاوفه…
” أنا السبب الحقيقي في هذه الحادثة ! كنتُ أعرف أن التوتّر بينهما وصل حد الخطر… بل تجاوزه بكثير… كان يجب أن أبعدهما عن بعض منذ زمن… ليتني فعلتُ ذلك قبل فوات الأوان… تركتُ الأمر يصل إلى حد الكسر ! أوه يا إلهي ! أنا السبب… كيف أقابل ربّي؟؟ بأي وجه سألقى أبي و عمّي؟ و أمّي؟؟ ماذا سأقول لهم ؟؟ لقد أودعتموها أمانةً عظمى في عنقي و أنا… ببساطةٍ تركتها تتكسّـر ! “
و ضربتُ رأسي بالجدار الذي كان خلفي غضباً من نفسي… و تمنيتُ لو أنه تحطّم… أو أن عظامي هي التي انكسرتْ و لا مسّ الصغيرة خدش ٌ واحد…
سيف شدّ على يدي أكثر و نطق ببعض الكلمات المواسية… التي ما كان أحوجني إليها آنذاك…
بعد ذلك سألني :
” هل… عرف أقاربها بالأمر ؟ “
فتحتُ قبضتي بسرعة و كأنني تذكّرتُهم الآن فقط… فقلتُ و أنا أهزّ رأسي :
” كلا ! لن أخبرهم ! إنهم سيتهمونني بالتقصير في رعايتها… كانوا سيحرقونني بنظراتهم عندما أخذتها آخر مرّة من بيتهم… “رواية انت لي الحلقة 45
و تذكرتُ الطريقة التي كانتْ أم حسام تخاطبني بها في آخر لقاء… و كيف قالتْ لي: (الله الله في اليتيمة) و كأنها كانتْ تشكُ في أنني سآتي بها يوماً ما مكسورة العظام…!
و الأيام سترينا مدى صدق مخاوفي…
قال سيف:
” لا تحمّل نفسك الذنب يا وليد… فلنحمد الله على لطفه و ندعوه أن يعجّل الشفاء للمصابة و يجعل من وراء هذه الحادثة خيراً “
ابتسمتُ بامتنان ثم عانقتُ صديقي مستمداً منه بعض الطاقة و الشجاعة…
بعدها قال :
” بلّغها تحياتي و أمنياتي بالشفاء العاجل… و إذا احتجتم لأي شيء أو أي مساعدة منّي أو من أم فادي فلا تترددوا رجاء ً “
الساعة الثامنة مساء… انتهى وقتُ الزيارة… و أتت ْ إحدى موظفات المستشفى لتنبيهنا لذلك… و أنا واقفٌ إلى جوار رغد… و الخالة قد وصلتْ قبل قليل، و سيف قد غادر.
نظرتُ إلى رغد نظرة متردّدة ثم قلتُ :
” ستبقى الخالة برفقتكِ… اعتمدي عليها في أي شيء تريدينه و إذا احتجتما لي اتصلا في الحال “
ظهر الاهتمام على قسمات وجه رغد و قالتْ :
” إلى أين ستذهب ؟ “
أجبتُ بلطف :
” إلى البيت… إذ أنه لا يمكنني البقاء أكثر “
و هنا رأينا رغد تستوي جالسة… و تقول معترضة و وجهها يصفر ّ قلقاً :
” هل ستتركني وحدي ؟ “
تبادلتُ و الخالة النظرات ثمّ قلتُ :
” لا … ستبقى خالتي معك “
و إذا برغد تهتف :
” أخرجني من هنا “
وضعها ينذر بأنها على وشك الثوران… لم استطع قول شيء فقالتْ الخالة :
” يهديك الله يا بنيّتي كيف يُخرجكِ هكذا ؟ “
لكنّ رغد لم تكن تمزح… بل أبعدتْ اللحاف و أرادتْ النهوض فأسرعتُ باعتراضها و أنا أقول:
” أوه كلا… أرجوكِ لا تتحرّكي “
فصاحتْ مرتاعة:
” كيف تذهب و تتركني؟ ألا ترى ما أنا فيه يا وليد؟ ألا ترى هذا ؟؟ “
قلتُ بهلع:
” حسناً حسناً … سوف لن أذهب لكن أرجوك لا تنفعلي مجدداً… ابقـَي مكانك “
و أنا أعيد إسنادها إلى الوسادة… و أتنهد ثم أمسح زخات العرق التي نبتتْ على جبيني و أضغط على صدغي لأخفـّف الصداع الذي تفاقم لحظتها… ثمّ أجلس على طرف السرير باستسلام…
لابد أن التوتر و الضيق كانا فاضحين جداً على وجهي… للدرجة التي صعقتني رغد عندها بقول :
” ماذا ؟ هل ضقتَ ذرعاً بي ؟ إذن ارم ِ بي من هذه النافذة و أرح نفسك “
لا ! ليس من جديد… توقــّـفي عن جنونك يا رغد أرجوكِ كفى… كفى…
زحفتُ نحوها و قلتُ بألم و ما بي من بقايا طاقة تحتمل المزيد:
” ما الذي تقولينه يا رغد؟؟ أرجوك هذا يكفي “
قالتْ صارخةً :
” ألا ترى حالتي هذه؟؟ كيف تفكّر في الذهاب و تركي؟ ألا تشعر بما أنا فيه ؟ “
قلتُ :
” لا لم أفكّر في ترككِ ، و لكن نظام المستشفى لا يسمح ببقاء رجل برفقةِ مريضة في قسم السيدات. حتّى لو كان أباها. لذلك طلبتُ من الخالة مرافقتك”
لكن رغد لم يعجبها هذا و أصرّتْ على أن أبقى معها تلك الليلة، و لم تكن حالتها تسمح بأن أتجاهل إصرارها…
و رغم الحرج الشديد الذي واجهته و أنا أطلب من المسؤولين السماح لي بالبقاء هذه الليلة مع المريضة و المرافقة… تعاطفا ً مع حالتها النفسية، رضختُ لرغبة رغد و تكبّلتُ العناء و قضيتُ الليلة الثانية ساهراً إلى جوار صغيرتي… تاركاً أروى تبات وحيدة في المنزل الكبير…
لم تكن ليلتي ليلة ً و لم يكن حالي حالاً… لا أنا و لا صغيرتي عرفنا للراحة طعماً… كنتُ أجلس على مقعد تحجبه عن سريرها الستارة… و لكنّي كنتُ أسمع كل حركاتها و تقلباتها و تأوّهاتها طوال الليل… كانتْ نوبات الألم تكرّ و تفرّ على عظام الصغيرة المكسورة و أنسجتها الممزقة… و الممرضة تأتي بين فترة وأخرى لإعطائها المسكّن…
في صباح اليوم التالي سمحتْ لي رغد بالخروج على أن أعود عصرا … و ما كادتْ تفعل.
كان الإرهاق قد أخذ منّي ما أخذ و لم أكن قد نمتُ البارحة أبدا… غير غفوة قصيرة تملكتني بعد شروق الشمس. و يبدو أن الخالة قد نجحتْ في إقناعها بتركي أذهب أثناء غفوتي القصيرة أول الصباح.
وقفتُ قرب رغد أسألها عن أي شيء أخير تريده قبل مغادرتي…
” سآوي إلى فراشي مباشرةً … و سأترك هاتفي عند وسادتي… اتصلا إن احتجتما أي شيء في أي وقت و بدون تردد”
قلتُ و أنا أنقل بصري بين رغد و الخالة… رغد أومأتْ موافِقة، و الخالة قالتْ مطمئِنة:
” لا تقلق يا بني. سنتصل عند الضرورة. اذهب و نم مطمئنا مسترخيا “
التفتُ إلى رغد و أطلتُ النظر… لم يكن قلبي بقادر على المغادرة لكن و لم أثق في موافقتها هذه… لكنّي كنت في غاية الإرهاق و بحاجة ماسة للنوم…
مددتُ يدي إليها و ربتُ على يدها و قلت ُ بصوت هادئ و حنون :
” حسنا صغيرتي… أتركك ِ في رعاية الله… ابقي هادئة رجاءً … سوف لن أطيل الغياب “
الصغيرة شدّتْ على يدي و حملقتْ بي و ربما كان لسان حالها يقول (لا تذهب) لكنها أجبرتْ فمها على التقوس في شبه ابتسامة مترددة…
و ما كان منّي إلا أن شددتُ على يدها و قلتُ أخيرا بأحن صوت:
” أراكِ على خير و عافية… يا صغيرتي “
و هكذا تركتها أخيرا و عدتُ إلى البيت مثقلا بالتعب و الهموم…
في المنزل سرتُ ببطءٍ شديد حتى بلغتُ أسفل الدرج… و تذكرتُ صراخ رغد ليلة الحادثة فقرصني الألم في قلبي… صعدتُه خطوةً خطوة… و أنا مستمر في إنعاش صدى صرخاتها…
و انعكاس صورة وجهها المتألم…
و قادتني قدماي بشعور أو بغير شعور… ليس إلى غرفتي… بل إلى غرفتها…
دخلتُ الغرفة متجاوزاً كل اعتبار… و أخذتُ أحلّق بأنظاري في أرجائها… و أعانق بيدي جدرانها…
على الجدار الكائن خلف سرير رغد… كانتْ الورقة القديمة… للصورة التي رسمتها رغد لي… بشاربي الطويل… لا تزال تقف و منذ سنين… بكل بشموخ…
لم تحتمل عيناي رؤيتها… وسرعان ما خرّتْ دموعي صريعة الأسى…
جلستُ على حافة السرير… و مسّدتُ على الوسادة كما لو كانت هي صغيرتي… بكل عطف و حنان… فإذا بي أشعر بحبيبات رمل تعلق بكفي… و ألقي عليها نظرة فإذا بها ذرات السكر…
جذبتها إليّ و ضممتها إلى صدري… و هو أمر لم استطع أن أقدّمه لفتاتي المرعوبة… عوضا عن وسادتها… و كلّما تذكّرتُ كيف كانت مرحة و سعيدة جدا و نحنُ في النزهة أوّل الليل… ثم كيف صارتْ كومة من البؤس و الألم و الصراخ… ملقاة على السرير الأبيض التعيس آخره… عصرتها أكثر بين ذراعي…
انتابني شعور بنيران تحرق معدتي… و كأنها تنعصر قهراً مع الوسادة و تأوهتُ بألم…
رفعتُ يدي من على الوسادة إلى السماء و زفرتُ الآهة مصحوبة باستغاثة يا رب…
” يا رب… يا رب… أنت تعرف أنني لا أعزّ شيئا في هذه الدنيا مثل رغد… يا رب… أنا أتحمّل أيّ بلا ٍ … إلا فيها… أتوسّل إليك يا رب… ألطـُف بحالي و حالها… أتوسّل إليك… اشفِها و أخرجها سالمةً… و أعدها كما كانتً… يا رب… خـُذ من صحّـتي و أعطِها… و خـُذ من عمري و هبها… خـُذ منّي أي شيء… كل شيء… و احفظها لي سالمة… هي فقط… أنا لا أتحمّل أن يصيبها أيّ شيء… يا رب… أيّ شيء…. إلاّ رغد يا رب… أرجوك… لا تفجعني فيها… أنا أختنق يا رب… إلهي… أرجوك… اجعل لي من لطفكِ فرجاً عاجلاً… عاجلاً يا رب… عاجلاً يا رب… يا رب… “
و لو بقيتُ ها هنا لزهقتْ روحي من فرط المرارة …
غادرتُ غرفة رغد و أنا شاعرٌ بها تملأ رئتي… أزفرها و أستنشقها مع كل أنفاسي و أناتي…
ذهبتُ إلى غرفتي و قضيتُ زمنا أناجي الله و أدعوه و أصلّي له… حتى سكنتْ نفسي و اطمأنّ قلبي و ارتاح بالي… و فوّضتُ أمري إلى الله اللطيف الرحيم…
أخيرا … رميتُ برأسي المثقل على الوسادة… و نشرتُ أطرافي على فراشي بعشوائية… أخيرا سأستسلم للنوم…
أغمضتُ عينيّ بسلام… فإذا بي أتخيّل رغد من جديد… فتحتهما فرأيتها أمامي… لففتُ رأسي ذات اليمين ثم ذات الشمال… وكانت هي هناك… في كل مكان…
رفعتُ وسادتي و وضعتها على وجهي لأحول دون صورة رغد التي لم ترحم بحالتي تلك الساعة…
أرجوك ِ كفى! لماذا عدت ِ؟ دعيني أنام و لو لساعة! أرجوكِ يا رغد… رأفة ً بي…
لكنني رأيتها تحت الوسادة و لو قلبتُ وجهي على السرير لرأيتها فوقه أيضا تحاصرني كالهواء من كل الجهات
فجأة… تذكرتُ شيئا… لم يكن ينقصني تذكّره في تلك الساعة التعيسة…
رفعتُ الوسادة عن رأسي و جلستُ و بحثتُ بعيني تحت موضعها… قلبتُ بقية الوسائد… أزحتُ البطانية و فتـّشتُ هنا و هناك و لم أعثر على رغد !
” ربّاه ! أين اختفيت ِ فجأة ؟؟ “
ذهبتُ فورا إلى محفظتي و شرّحتها تشريحا دون جدوى !
فتشتُ أسفل السرير… و المنضدتين الجانبيتين و الأدراج… و كل مكان لم أكن لأترك فيه (رغد) … ورغم أنها كانت موجودة في كلّ مكان، لم أجدها في أي مكان!
” أروى ! لابد أنها هي ! “
استنتجتُ فجأة…
فخرجتُ من غرفتي و توجهتُ إلى غرفة أروى… و التي لم أكن قد رأيتها مذ تشاحنتُ معها صباحاً و نحن في المستشفى…
” أروى… هل أنتِ نائمة ؟؟ “
الوقت كان مبكراً و خشيتُ أن تكون نائمةً، لكنني أعلم أنّ من عادتها النهوض باكراً كل صباح… أعدتُ الطرق فرأيتُ الباب يُـفتح بعد ثوان و تطلّ منه أروى بوجه قلِق.
اللحظة الأولى مرّتْ صامتة ساكنة حتى عن الأنفاس… و باردة كليلة شتاء…
” هل… كنتِ نائمة ؟ “
سألتها بعد ذلك البرود فأجابتْ :
” نعم…”
و سألتْ بقلق :
” ماذا هناك؟؟ “
” آسف لأنني أيقظتكِ “
قالتْ :
” كنتُ سأصحو قريبا على أية حال… لكن ماذا هناك ؟ متى عدتما؟ “
قاصدة إياي و الخالة، قلتُ :
” خالتي ظلّتْ مع رغد”
و كأنّ ذكر (رغد) أثار في وجه أروى بعض التعبيرات المنزعجة… و سرعان ما نقلتْ بصرها بعيدا عنّي…
قلتُ :
” كنتُ سأسألك ِ سؤالا “
التفتتْ إليّ و قالتْ مباشرة :
” و أنا أيضا أود أن نتحدّث يا وليد… “
و هي تفتح الباب أكثر… فرددتُ :
” كلا ليس هذا وقته. أنا متعب جدا و لا يحتمل رأسي أي شيء… و لا شيء “
و كأن إجابتي أصابتها بإحباطٍ مما بدا على وجهها…
تابعتُ :
” فقط أخبريني… ألستِ من قام بترتيب غرفة نومي؟ “
و كانتْ عادتها أن تفعل ذلك. لم تجب أروى مباشرة… بل أخذتْ لحظة تفكّر… ثم قالتْ :
” بلى “
قلتُ :
” و… هل رأيتِ شيئا قرب وسائد سريري؟ أعني… هل أخذتِ شيئا من هناك ؟ “
ربما لمعتْ عينا أروى بشكل لم أفهمه… رمقتني بنظرة حادّة لا تتناسب و برودة اللحظة… ثم قالتْ :
و فهمتُ من ذلك أنها رأتْ الصورة الممزقة… فعضضتُ على أسناني ثم قلتُ :
” أين وضعتِها ؟ “
أروى رفعتْ حاجبيها و قالت ْ :
” القصاصات الممزقة ؟”
تشبثتْ عيناي بعينيها أكثر، إجابة على السؤال.. فتابعتْ هي :
” لقد… ألقيتُ بها في سلّة المهملات “
ماذا تقولين ؟؟ لم أسمع جيدا ؟؟ سلّة ماذا ؟؟
قلتُ بدهشة ممزوجة بعدم التصديق :
” ماذا؟؟ رميت ِ بها ؟؟ “
لم تعقـّبْ أروى… فكرّرتُ و قد اشتدّ صوتي و بدأتْ ألهبة النار تتراقص في عيني :
” تقولين رميت ِ بها ؟؟ “
و من البرود الذي صافحني به وجهها اشتعلتْ النيران في رأسي كليا…
” أروى !! رميتِ بها ؟؟ بهذه البساطة؟؟ و من أعطاك الحق بهذا التصرف؟ أوه… أروى ويحك !! في المرة السابقة رميتِ بالصندوق و الآن بالصورة…. كيف تسمحين لنفسك ِ بهذا؟؟ “
و لم يتجاوز ردّ أروى حدّ النظرات الصامتة !
” أخبريني في أي سلّة رميتِ بها ؟ “
دارتْ عين أروى قليلا و كأنّها تحاول التذكّر ثم قالتْ:
” أظن … أن الخادمة قد أخرجتْ جميع أكياس المهملات إلى سلــّـة الشارع”
حينها لم أتمالك نفسي!
صرختُ بوجه أروى بعنف… و أحرقته بنار الغضب …
أطبقتُ على ذراعيها و هززتـُها بقوّة و ركلتُ الباب ركلة عنيفة أوشكتْ على كسر عظام قدمي الحافية…
” ما الذي فعلتِه يا أروى ؟؟ لا تدركين ما فعلتِه … كيف ستعيدينها الآن ؟؟ تباً لك ِ! ألا يكفي كل ما أحدثتِه لحد الآن؟ لن يتـّسع عمري لتصفية حساباتي معك… و الآن اذهبي و استخرجيها لي و لو من قعر الجحيم ! “
رأيتُ نهرين من الدموع يتفجران فجأة من عيني أروى و يسيلان على وجنتيها… و رأيتُ الاشتعال في وجهها إثر صفـْعِ صراخي القوي…
ألم يكفها ما فعلتْ بالصغيرة ؟ و أيضا تحرمني من البقايا الممزّقة من ذكراها التي لم تفارقني لحظةً واحدة…منذ سنين ؟؟
صرختُ بخشونةٍ بالغةٍ :
” لا أريد دموعاً… أريد الصورة الآن و بأيّ طريقة… هيّا تحرّكي… في الحال… قبل أن تمزقكِ شياطين غضبي إربا… أتسمعين؟؟ “
و أفلتها من بين يدي بدفعةٍ قاسيةٍ…
أروى استندتْ إلى الجدار… ثم مسحتْ دموعها… ثم سارتْ ببطء نحو الداخل… ثم عادتْ إليّ تحمل شيئا في يدها و مدّته نحوي…
و سرعان ما اكتشفتُ أنها قصاصات صورة رغد الممزقة…
تجمّدتُ فجأة و لم أقو َ على الحراك… و تحوّلتْ نيراني إلى كتل ٍ من الجليد… رفعتُ بصري إلى عينيها فرأيتهما حمراوين و المزيد من الدموع تتجمع فيهما… و منهما تنبعثُ نظرات تعيسة…
” خـُـذ “
تكلــّمتْ بصوت ٍ هزيلٍ ضعيفٍ… و هي تحرّك يدها …
تحرّكتْ يدي بلهفةٍ و تناولتْ القصاصات من يدها… و أخذتْ عيني تتفحّصها بشوقٍ و تتأكد من اكتمالها… ثمّ انتقلتْ أنظاري من القصاصات إلى أروى…
شعرتُ بالانهيار… و حرتُ في أمري…
و أخيرا… قلتُ بصوت ٍ تحطـّم فجأة و تحوّل من الصراخ الناري إلى الهمس البارد:
” لكن… إه… لماذا ادّعيت ِ أنك رميت ِ بها ؟ “
أروى ردّتْ وسط بحر الدموع :
” كنتُ… أريد اختبار ردّة فعلكَ… لأتأكّد “
و عصرتْ الدمع المتجمّع في عينيها بمرارة… ثم تابعتْ :
” و أنا الآن… متأكّدة… من كلّ شيء “
و أضافت ْ أخيرا :
” ستمزقني… حتّى من أجل… صورتها ! “
و بسرعة استدارتْ و هرولتْ نحو سريرها و أخفتْ وجهها بين الوسائد و بكتْ بانفعال…
واقفٌ كعمود الإنارة المحروق… لا يملك قدماً تخطو للأمام و لا للخلف… و مهما ثار يبقى منطفئا عاجزاً عن إنارة المنبت الذي يرتكز عليه… و رؤية أين يقف… تسمّرتُ أنا بين الذهول و الفزع… و بين الإدراك و الغفلة… و التصديق و الرفض… أنظر إلى أروى و أسمع دوي كلماتها الأخيرة يزلزل جمجمتي… دون أن يكون لي من القوّة أو الجرأة ما يكفي لفعل أي شيء !
أخيرا تمكّن لساني من النطق …
” أروى … “
لم ترد عليّ، ربما كان صوتي جدا ممزقاً… لممتُ شيئا منه و ناديتها ثانية :
” أروى … “
و هذه المرّة ردّتْ فجاء صوتها مكتوماً عبر الوسائد :
” اتركني وحدي “
و على هذا… عدتُ أدراجي إلى غرفتي أحمل أشلاء صورة محبوبتي الصغيرة بين أصابعي… و أضمّها إلى صدري…
و مرة أخرى هويتُ برأسي المشحون بشتّى الأفكار على الوسادة… و لكنني لم أرَ إلا سواداً أودى بوعيي إلى قعر الغياب…
الساعه الثالثه إلا عشر دقائق عصراً أفقت من النوم مفزوعا على صوت رنين هاتفي.
تناولت الهاتف بسرعه وأنا استرجع وعيي فجأه واتذكر رغد وما ألم بها
أجبت بقلق:
نعم هذا أنا”.
وسمعت صوت رغد يحدثني من الطرف الآخر:
مرحبا وليد. هل كنت نائما؟”
قلت:
نعم رغد هل انت بخير؟
قالت:
“أجل. اتصلت مرتين ولم ترد! كنت أريد أن أطلب منك جلب بعض حاجياتي معك.
متى ستأتي؟””
ألقيت نظرة على ساعة الحائط ثم قلت:
“بعد ساعة من الآن. لقد استغرقت في النوم ولم أحس بشي. أنا أسف. ماذا أجلب معي؟”
وذكرت لي عدة أشياء تلزمها… وإن كان (الحذاء) من بينها!
لم ألتق بأروى خلال تلك الساعة ولم أسمع ردا حين طرقت باب غرفتها
لأعلمها بانصرافي..
وذهبت إلى المستشفى وأنا أحمل باقة من الزهور الجميلة وعلبة شوكولا كبيرة بالإضافة إلى حاجيات رغد..
عندما وقعت أنظاري عليها للوهلة الأولى شعرت براحة..
إذ أنها بدت بحالة أفضل
وعاد لون الحياة إلى وجهها بعد الشحوب. كما أنها سرت بباقة الزهزر وشكرتني عليها.
أقللت خالتي إلى المنزل وعدت سريعا إلى رغد حيث قضيت معها ساعات الزياره..
تخلل تلك الساعات فترة العشاء وقد قمت بنفسي بتشجيع ومساعدة رغد على تناول
الطعام.
تجابها معي طمأنني إلى أنها تجاوزت مرحلة الانهيار النفسي وتقبلت لحد ما وضعها الحالي. هاذا إضافة إلى
أن كلام الطبيب منحني المزيد من الطمأنينة على وضعها هذا اليوم.
بعد أن أنهت عشائها بدا عليها بعض الشرود والتوتر …
وأنا أعرف صغيرتي حين يشغل بالها شيء..
سألتها:
” أهناك شيء يا رغد؟”
نظرت إلي وفي عينيها التردد ولمحت أصابع يدها السليمه تتحرك باضطراب.
وكأنها تود قول شيء تخشاه.
قلت مشجعا:
“خير صغيرتي؟؟ ماذا يزعجك؟
قالت بعد تردد:
“ماذا قالت لك؟”
نظرت إليها مستنتجا ما تعنيه. كانت الإشارة إلى أروى طبعا. الاهتمام كان جليا على وجهها.
رددت عليها:
“لاشيء”
فسألت:
لاشي؟
فوضحت:
“أعني أنني لم أتحدث معها بعد. حقيقة لم أجد الوقت لذلك. كنت نائما طوال الساعات.
تلاشى جزء من توتر رغد وسكنت أصابعها ولكنها لم تزل مشغولة البال.
قلت:
“أهناك شيء تودين قوله لي يا رغد؟
اضطربت وأجابت:
” لا. لكن…”
“لكن ماذا؟”
“لاتتصغ لما تدعيه هي علي… إنها تكرهني”.
وقد قالتها بانفعال فقلت:
“لا أحد يكرهك يا رغد.
فردت بانفعال أكثر:
“بل تكرهني.., وتعتبرني عالة عليك وعلى ثروتها.. وحتى على منزلنا”.
قلت نافيا:
“غير صحيح يارغد… أروى ليست من هذا النوع”.
قالت بعصبيه:
“قلت لك لا أريد سماع أسمها… لماذا تدافع عنها؟ ألم ترَ مافعلت بي؟؟ أنت لم تسمع ماقالته لي”.
أحسست بأن أي شراره قد تشعل حريقا فظيعا… فأردت تدارك الأمر وقلت:
“لاتلقي بالا لشيء الآن. سنناقش المشكلة بعد خروجك سالمة إن شاءالله”.
هدأت رغد وقرأت الرضا والامتنان على قسمات وجهها,ألحقتهما بابتسامة بسيطة بكلمة:
“شكرا على تفهمك”.
ابتسامتها السطحية هذه أدت مفعولها وأشعرتني بتيار من الراحة… أما جملتها التالية فأطلقت قلبي محلقا في السماء…
“أنت طيب جدا… أثق بك كثيرا يا وليد”.
غمرتني نشوى دخيلةٌ على الظروف والحال اللذين نمر بهما … وأطلقت زفرة ارتياح وسرور من أعماق صدري…
وانقضت ساعات الزيارة وذهبت إلى المنزل مرتاح البال زمتهلل الوجه لحد ملحوظ…
ثماصطحبت الخالة ليندا إلى المستشفى لتبقى مع رغد طوال الليل…
عندما وصلنا إلى المستشفى, وبعد أن ركنت السيارة في أحد المواقف الخاصة,
خاطبتني الخالة قائلة:
” وليد يابني… عد إلى أروى وتحدث معها”.
كانت نبرتها مزيجا من الجدية والحزن… أيقضتني من نشوة السرور التي كنت أغط فيها…
شعرت بالحرج وقلة الحيلة ولم أجرؤ على النظر إلى عينيها… الخلة تابعت:
“إنها ليست على مايرام يابني…أنت منشغل هنا مع رغد وإصابتها… لكنأروى أيضا في حالة سيئة وبحاجة إليك باركك الله”.
بخجل رفعت بصري إليها وأطرقت برأسي مؤيداً…
حين وصلت إلى البيت وقفت أمام غرفة أروى في حيرة… لم تكن لدي الأفكار الحاضره لطرحها في الحديث…وأحاديثنا في الأيام الأخيرة كانت مشحونة جدا…
ومؤخرا تصرفت معها بخشونة بالغة…
مددت يدي أخيرا وطرقت الباب…
” هذا أنا… أيمكنني الدخول؟؟”
فلم ترد. فقلت:
“أروى… هل أنت نائمة؟؟”
فلم ترد.
كررت مناداتها إلى أن سمعتها تجيب أخيرا وبنبرة غاضبةٍ:
“نعم؟ ماذا تريد”.
قلت:
“ام لاتردين علي؟؟ أقلقتني عليك”.
فسمعتها ترد بأسلوب لم يعجبني:
“أحقا؟؟ لاداع لأن تقلق بشأني. يكفيك ما أنت فيه ومن تقلق بشأنهم. لاتتعب نفسك”.
وقفت برهة حائرا ومنزعجا في مكاني.. فأنا لم أعتد الصدود من أروى بل رحابة الصدر وطول البال وحرارة الترحيب…
ثم ناديتها مرتين وطلبت منها الإذن لي بالدخول لنتحدث… ولما تجلهلت نداءاتي تجرأت وفتحت الباب!
دخلت الغرفة فرأيت أروى تهب واقفة مفاجأة من دخولي… ورأيت الاحمرار يطلي وجهها بسرعه… وأروى من النوع الذي يتغير لون وجهه بسرعه مع تغيرات انفعالاته…
قلت وأنا أراها تضطرب وترتد خطوة للوراء:
“أنا… أنا آسف ولكنني…”
وتنحنحت لأزيل الحروف التي تعثرت في حنجرتي… ثم تابعت بصوت خافت
وحنون:
“قلق بشأنك”.
حل صمت عميق فيما بيننا فلا أنا قدرت على مواصلة الكلام ولا هي تكلمت لتشجعني… بل تراجعت خطوة أخرى للوراء وأدارت وجهها وأبعدت عينيها عني…
هل سنقف هكذا طويلا!؟؟ يجب أن أفعل شيئا!
تجرأت وخطوت بضع خطوات مترددة مقتربا من أروى… وهي لاتزال مديرة وجهها عني متحاشية النظر إلي…
“أروى”.
ناديتها بصوت حنون…
وإن لم تنظر إليّ أو لم ترد علي… فهي على الأقل تسمعني…
قلت:
“أروى… أنا آسف لما بدر مني… أعرف أنني… أنني كنت فظا.. لكن… اعذريني فأنا أمر بظروف تفقد المرء اتزانه”.
وأضفت:
“والأجدر بك كزوجة مساندتي وليس مؤاخذتي…”
هنا التفتت أروى إلي ورفعت بصرها نحوي… فقرأت في عينيها كلمات غاضبة…
ثم علقت:
“والأجدر بك كزوج… ملاطفتي وليس الصراخ في وجهي وسحق عظامي في الجدران”.
لم أعرف بم أعقب! صعقني تعقيب أروى وأشعرني بذنب مؤلم…
أنا وأروى ومنذ ليلة شجارها مع رغد… على خلاف يتفاقم يوما بعد يوم… وأحدثت شجاراتها مع رغد بيننا فجوة كبيرة آخذة في الاتساع…
أولتني أروى ظهرها مجددا لتبعد عينيها وتعبيرات وجهها عن مرآي. ومرت اللحظة خلف اللحظة ونحن واقفان على هذا الوضع…
أردت أن أشعرها بندمي وبأنني راغب في أن نتفاهم ونتصالح…
مددت يدي ووضعتها على كتفها برفق… ثم أدرتها لتواجهني… وعندما التقت نظراتنا شاهدت بريق الدموع في عينيها…
“أروى…”
قلت هامسا:
“دعينا نتفاهم… أرجوك”.
رفعت أروى يدها ومسحت الدمعة العالقة في رموشها قبل أن تطل… وأظهرت تعبيرات التماسك وقالت أخيرا:
“حسنا. عم تريدنا أن نتفاهم؟”
قلت وأنا لا أزال واضعا يدي على كتفها:
“عن كل شيء… والأهم عنك أنت”.
نظرت إلي وهي وتضيق فتحتي عينيها وتقول:
“عني أنا؟”
أجبت:
“نعم. فأنا أود الاطمئنان عليك قبل كل شي الآن…”
قالت:
“وكيف تراني الآن؟؟”
قلت مشجعا:
“أراك بخير والحمدلله… ألست كذلك؟”
أمالت أروى إحدى زاويتي فمها للأعلى وعقبت:
“تلزمك نظارة”.
وهي إجابة لم أتوقعها من أروى… ولم أستسغها… ثم أبعدت يدي عن كتفها إشارة إلى أنها غاضبة مني…
قلت محاولا استرضاءها:
“أروى… أنا آسف… آسف لأنني قصرت معك وأسأت التصرف… أرجوك أن تعذريني… إنني لا أعرف ماحصل ولكنني مأخوذا بإصابة رغد البالغة ولم أستطع التفكير في شيء أخر معها… أردت أن أسألك لتتضح الأمور… ولكن… تعرفين… كنت مضطرا لملازمة رغد في المستشفى ولم تسنح الفرصة”.
قالت أروى وهي تعبر عن استيائها:
“مضطر؟؟”
قلت:
“أعني… أنه لابد من ذلك… لم يمكنني تركها وحيدة آنذاك لأنها تفزع من الوحده والغربة… إنه فزع مرضي كما أعلمتك مسبقا…”
قالت أروى بشيء من السخرية:
“وما الذي جعلك تتركهاالآن؟ هل تخلصت من مرضها أم ماذا؟”
لم أعقب على سؤالها, ثم قلت:
“اندع رغد لما بعد ولنتحدث عنك أنت الآن”.
ولم أفهم سر التعبيرات التي طلعت على وجه أروى لحظتها…
بعدها قالت:
“بالنسبة لي أنا… فأنا أريد العودة إلى المزرعة”.
فوجئت من كلامها وارتسمت على وجهي تعبيرات عدم التصديق… فنحن في ظروف ليست بحاجة للشرح ولايمكن لفكرة السفر أن تبقى في رأس أي منا…
قلت مستغربا:
“المزرعة؟؟”
فردت مؤكدة:
“نعم المزرعة. أريد العودة إلى المزرعة… إلى خالي… وفي أقرب فرصة”.
أتعني ماتقول؟؟ ألا ترى وضعنا الحالي؟؟ أهي جادة في كلامها هذا؟؟
قلت:
“كيف يا أروى؟ عجبا! كيف تفكرين في هذا الآن؟؟ لانستطيع السفر وتدركين لماذا”.
قالت موضحة:
“أما لم أقل نريد العودة… قلت أنني أنا أريد العودة… وإذا احتجتم لوالدتي فلا أظنها تمانع البقاء معكم… لكني أريد السفر وبسرعة… ولاتحاول ثنيي لأنني لن أغير موقفي”.
وكان على وجهها الحزم والجد… فأدركت مدى الإصرار الذي تحمله…
رفعت يدي الاثنتين إلى كتفيها من جديد وقلت بصوت راجٍ:
“لماذا ياأروى؟ ألا تقدرين مانحن فيه؟”
أجابت بصوت غاضب, أفلت من مكابحه فجأة وفجر نافورة من الدماء في وجنتيها:
“لماذا؟ أوتسألني لماذا؟؟ لأنني تعبت يا وليد… أكاد أنفجر… ألاتشعر بما أعانيه؟؟
ألا تحس بي يا وليد؟؟ ألا تحس؟؟
وقبل أن تتم جملتها كانت الدموع قد فارقت من عينيها… فرفعت كفيها وخبأت وجهها وبكت بصوت عال…
كانت يداي لاتزالان قابعتين على كتفيها بحنان… ربما لتطبطبان على موضع القسوة التي عاملتها بها صباحا…
بكت أروى بألم.. فرققت لحالها وقلت:
“أرجوكِ… لاتبكي…”
لكنها استمرت في إطلاق الزفرات الباكية الحارة…
قلت بلطف:
“اهدئي رجاءً…”
أروى أزاحت كفيها عن وجهها ونظرت إلي من بين الدموع…
“ألا تحس بي يا وليد؟؟”
أجبت بعطف:
“من قال ذلك؟!”
أروى عصرت عينيها من الدموع وهي تحرك رأسهها نفيا وتقول:
“لا… لا تحس بي! إنك لا تشعر بما أشعر به… ولا بما أعانيه”.
مدهشا من كلامها وقفت أحدق في عينيها وأصغي باهتمام…
وإذا بها تمد إحدى يديها إلى إحدى ذراعيّ الممدودتين إلى كتفيها فتشد عليها وتقول:
“وليد… وليد… أنا أحبك”.
شعرت بشيء يقف في حلقي فجأة ويسد مجرى هوائي! فتوقفت عن الحركة وعن التنفس…
أما هي فتابعت:
“أتدرك ذلك؟؟”
ولما رأت سكوني هزت ذراعي وكررت:
“أتدرك ذلك يا وليد؟ أتحس بي؟؟”
أطلقت زفرة أخيرة مصحوبة بإجابة متوترو:
“آه… أجل… طبعا”.
قالت:
“وأنت؟ هل تحبني؟”
ازداد توتري واستغرابي… ازدردت ريقي ثم قلت:
“ماذا دهاك يا أروى”.
قاطعتني سائلة وهي تضغط على ذراعي:
“هل تحبني؟”
قلت:
“أروى!!؟”
فضغطت أكثر على ذراعي وقالت:
“أجب يا وليد…”
احتقنت الدماء في وجهي واشتعل احمرارا… وخرجت أنفاسي حارة لفحة وجه أروى وأوشكت أن تحرقه…
“بالطبع…”
وكأن الإجابة قد فجرت بركانا مملوء بالحمم في عينيها… نظرت إلي نظرة تشكك… وحركت رأسها نفيا… ثم دفنت كل تلك الحرائق في صدري…
“لماذا تفعل هذا بي يا وليد؟؟ أنا لا أتحمل… لا أتحمل… لا أتحمل”.
انهارت أروى باكية على صدري بعمق.. فما كان مني إلا أن أحطتها بذراعي بعطف… وطبطبت عليها…
كنت أرغب في أن نتحدث معا ونستوضح الأمور… ونصلح الخصام القائم بيننا غير أن بكاءها وانهيارها بهذا الشكل جعلني أرجىء بعيدا الأفكار المبعثرة التتي كنت أحاول تجميعها قبل دخولي الغرفة…
تركتها تبكي على صدري وأخذت أمسح على شعرها الناعم… حتى هدأت قليلا…
فقلت مشجعا:
“يكفي يا أروى… أرجوكِ”.
وأمسكت برأسها وأبعدته عني قليلا… حتى التقت نظراتنا… وكم كانت عميقة ومكتظة بالمعاني…
همست بعطف وقلق:
“ماذا حل بكِ… أروى؟”
فردت للعجب ردا لايمت لسؤالي بصلة:
“إنك حتى… لم تفكر في الاحتفاظ بصورة لي! أنا خطيبتك… وزوجتك شرعا”.
نظرت إليها والدهشة تملأ وجهي… وبدأ سباق نبضات قلبي وانتهى بتوقف مفاجىء.
حين سمعت أروى تتابع قائلة:
“لكنك تحتفظ بصورتها هي!”
جفلت تيبست ذراعاي وتصلبت رجلاي… حملقت في أروى في عجز عن تحرير أنظاري من أسرها…
وإذا بها تقول:
“لايحتفظ الرجل بصورة فتاة تحت وسادته… إلا إذا كان يحبها… لا يحتاج المرء لذكاء خارق حتى يستنتج هذا”.
هنا انكتمت أنفاسي كليا ووقف شعر جسدي مذهولا… حدقت عيناي في عيني أروى واستقبل وجهي كلماتها القوية… كصفعة مباغتة اصطدمت به حتى تمحي ملامحم…
وبالتأكيد… فإن ملامح وجهي بالفععل قد اختفت… لأنني رأيت عيني أروى تدوران فيه… تفتشان عن شيء لم تعثر عليه…
متسمرا في مكاني… وساكنا عن أي حركةٍ أو نفسٍ أو نبض, وقفت أما أروى أتلقى النظرات الثاقبة… ذات المعاني المستهدفة…
لما رأت أروى سكوني المهول… حركت يديها نحو كتفي وضغطت عليهما… وسألت:
“هل تحبها؟”
السؤال المفاجىء المهول… أجبر فمي على الانفغار… لكن نفسا لم يخرج منه… ونفسا لم يدخل إليه…
شعرت بيدي أروى تشدان أكثر على كتفي… وكانت تركز في عيني كمسمار دق على بصري فثبته ومنعه من الهروب…
كررت:
“أنت تحبها… أليس كذلك؟؟”
لم أتحرك!
قالت ووجهها يشع احمرارا:
“أجب يا وليد؟؟”
حاولت أن أبلع ريقي لكن الشلل أصاب حلقي… كما أن الجفاف الشديد صير لساني إلى قطعة خشب مهترئة عاجزة عن الحراك…
“أجبني”.
ألحت أروى… وبصعوبة عصرت هذه الكلمات من لساني عصرا:
“بـــ… بالطبع… أليست ابنة عمي؟”
أروى هزت رأسها استنكارا وقالت:
“لا يا وليد! أنت تدرك ما أعني… أنت تحبها أكثر من ذلك… لا تحاول… إنك… أنت… آه”.
ولم تكمل أروى جملتها… بل سحبت يديها وأخفت وجهها بهما وابتعدت عني…
وربماكان هذا أفضل مافعلته… لتطلق سراح عيني…
ترنحت عيناي في اللاشيء… واللاهدف… وتأرجحت ذراعاي على جانبي كبندول الساعة… وتراقصت كلمات أروى الأخيرة بين طبلتي أذني حتى مزقتهما…
العرق كان يتصبب من جسمي… والدماء تغلي في عروقي… وأشعر ببخار يخترق جلدي ويطير إلى السقف…
لم أتوقع أن تأتي هذه اللحظة ذات يوم… ولم أفكر بها… وبقيت متجاهلا لاحتمالها وهاربا منه… حتى جاءت بغتة… فلم تجد لدي أي استعداد لاستقبالها…
كانت لحظة من أصعب لحظات المواجهة… بيني وبين أروى… كان… موقفا لا أحسد عليه… ورغم أنه فاجأني لحد الذهول… لحد الذوبان والتيه واللاشي… لم تصدر عني أية ردة فعل تجاهه… كنت مشلولا تماما… وما كان أسرع ما استسلمت لحصوله… وانسقت لما فرضه علي… فلا يوجد ما يمكنني أن أنفيه أو أدعيه أو أشكك فيه…
عرفت يا أروى؟؟ لابد أنك كنت ستعرفين ذات يوم…
أنا… لاأستطيع بأي حال أن أفلح في إنكار حقيقة بهذا الحجم… بحجم السماء في سعتها… وبوضوح الشمس في سطوعها…وبعمق البحر في جوفه…
إنهها الحقيقة التي تحتل تسعاً وتسعين جزءا من المائة… من حياتي كلها… ولساني يبقى عاجزا تماما عن نفيها أو تحويرها… وأفكاري منقادة لأوامر القلب الذي يستحيل عصيانه… وجنوني يدفعني لأن…أحتفظ بصورتها القديمة الممزقة كل تلك السنين… كل تلك السنين… مخبأة عندي… نعم… فهي فقط… كل ما أستطيع الاحتفاظ به… قريبا من قلبي… هي فقط… ما أستطيع أن أتحسسه بيدي… وأتأمله بعيني… وأضمه إلى صدري…
وخلال التسع سنوات الماضية… لم تفارقني هذه الصورة الغالية… كنزي الثمين… ولا ليلة واحدة…
بعد مرور بضع دقائق أو شهور أو حتى سنين… أصابني الإعياء فسرت حتى جلست على طرف السرير… التقطت أنفاسي كعجوز طاعن… أتعبه الوقوف على رجليه لبعض الوقت…
وبقيت على صمتي لدهر…
كنت أسمع صوت بكاء أروى ولا أرفع نظري إليها… حتى إذا ما توقفت, تسللت عيناي إليها بحذر…
كانت مولية ظهرها إلي ولكنها استدارت بعد قليل ولما التقت نظراتنا أسرعت بالانسحاب عن عينيها…
سمعتها بعد ذلك تقول:
“أريد أن ترتب أمر سفري بأسرع ما يمكن…”
وخرجت الجملة متحشرجة هزيلة… وجهة إليها بصري من جديد فوجدت الدموع وقد جفت عن عينيها والجفون قد تورمتوالخدين قد توهجا من أثر الملوحة…
قالتها وانتظرت ردت فعلي…
ولأنني ساعتها لم أكن بقادر على الرد فقد اكتفيت بالتنهد وإمالة رأسي نحو الأرض… وحينما رفعته مجددا رأيتها تخرج من الغرفة وتتجه إلى الحمام… حاولت أن أناديها لكن الضعف الذي ألم بي حال دون حراكي…
انتظرتها حتى تعود… وأنا ألملم بعض أشلاء شجاعتي… وأعيد ترتيب كلماتي…
لكن الانتظار طال ولم تعد…
قمت وتوجهت نحو الحمام وطرقت الباب:
“أروى ألن تخرجي الآن؟”
أجابت:
“كلا… لاتنتظرني”.
وأدركت أنها لا تريد مواصلة الحديث… فما كان مني إلا أن انسحبت.
وفي غرفتي أعدت حوارنا القصير… وتقليب الجمل التي قالتها أروى في رأسي مرارا… فيما كانت الصورة الممزقة تعبث بأصابعي…
( لا يحتفظ الرجل بصورة فتاة تحت وسادته… إلا إذا كان يحبها).
آه ياصغيرتي الممزقة…
ألم تكوني نائمة بأمان في محفظتي؟؟ لماذا أخرجتك تلك الليلة!؟ لماذا تخليت عن حذري هكذا؟؟
لقد… كنت دائما لي وحدي ولا يراك إلا عيناي… لماذا ظهرت لها وكشفت السر الدفين… وفي هذا الوقت بالذات؟؟
وتذكرت… أنه في منزلنا المحروق… في غرفة سامر… في إحدى المرات…
تركت صورة رغد الممزقة قرب وسادتي ونمت… ثم جاءت والدتي رحمها الله توقظني لتأدية الصلاة… ورأتها…
ظننت حينها… أن الموقف إنتهى في ساعته… ولو تعلمون… إلى أي مدى امتد… وماذا فعل…
طافت على مسمعي… ذكريات الكلمات الغامضة التي قالتها لي والدتي في لقائي الأخير لها قبل سفرها مع أبي إلى بيت الله… إلى حيث لارجعة عندما كانت توصيني برغد…
(” انتبه لرغد جيدا يابني”.
” بالطبع أمي!”)
أمي بدا المزيد من القلق جليا على وجهها وقالت:
(“كنا سنؤجل حجنا للعام التالي لكن… كتبه الله لنا هذا العام… هكذا قضت الظروف يابني”)
وهذا زادني حيرة!
قالت(“لو أن الظروف سارت على غير ذلك… لكانت الأوضاع مختلفة الآن… لكنه قضاء الله يا ولدي… سأدعوه في بيته العظيم بأن يعوضك خيرا مما فاتك… فلنحمده على ما قسم وأعطى”)
وقلت(“الـــ… حمدلله على كل شيء… أمي أنت تلمحين لشيء معين؟؟”)
فقالت:
(“لم تتغير هي عما تركتها عليه قبل سنين… كما لم تتغير أنت…”)
ثم أضافت:
(“إلا أن الظروف هي التي تغيرت… وأصبح لكل منكما طريقه…”).
وقد توهج وجهي منفعلا مع كلمات أمي والحقيقة الصارخة أمامي أنذاك…
ولم أستطع النبس ببنت شفة أمام نظراتها التي كشفت بواطن نفسي…
قالت:
(“اعنت بها كما يعتن أي شقيق بشقيقته… كما تعتني بدانة, وادع معي الله أن يسعدهم هم الثلاثة, وأنت معهم”).
آه يا أماه… إنك لاتعلمين ماحصل بعد رحيلك… لو تعلمين…!
في صباح اليوم التالي وفبل ذهابي إلى المستشفى التقيت بأروى صدفة في المطبخ…
كانت هادئة جدا… وتحضر بعض الطعام… وكانت بعض الأطباق موضوعة على المائدة… ورائحة الخبز المحمص والقهوة تملآن المكان…
وقفت أراقب أروى خلسة عند الباب… وأنا حائر… أأدخل… أم أنصرف…؟؟
هل سيزعجها مروري أم سترحب بي؟؟
بأي وجه أقابلها وأي كلام سأقول…؟ وأي موقف ستتخذ مني؟؟
وفيما أنا في حيرتي لمحتني أروى فجأة فارتاعت وأوقعت ما كان في يدها…
باشرت بالدخول وسرت نحوها والتقطت معها حبات الزيتون المبعثرة على الأرض وأنا أقول:
“أنا آسف… هل أفزعتك؟”
وهي ترد:
“فاجأتني”.
وبعد فراغنا من جمع الحبات التهمت إحداها…
“طيبة المذاق”.
قلت معلقا… متحاشيا إطالة النظر في عينيها قدر الإمكان… ومحاولا خلق جو جديد يمحو آثار جو البارحة الممطر… أو يلطفه…
قالت وهي تشير إلى طاولةالطعام, والتي وضعت عليها صحن الزيتون وبعض أطباق الفطور الأخرى:
“تفضل”.
بدا الطعام شهيا… وذا رائحة طيبة… تسيل اللعاب… وارتحت لتجاوبها مع الجو الجديد… وقد أتناول شيئا من الفطور معها لإخماد الحريق… ولو مؤقتا…
نظرت بشكل عفوي إلى ساعة يدي… لمعرفة الوقت تحديدا فما كان من أروى إلا أن علقت بطريقة فاجأتني:
“أم أن المدللة الحبيبة تنتظرك؟”
اصطدمت نظراتنا وتعاركت معا… ثم عادت نظراتي تجر أذيال الهزيمة إلى…
إذن… النار مضرمة ومستمرة ولاسبيل لإطفائها بوجبة فطور…
ومع رد أروى الحاد لم أجرؤ على قول أكثر من:
“إلى اللقاء”.
وسرت خارجا يلحقني صوتها وهي تقول:
“لاتنس موضوع السفر”.
***رواية انت لي الحلقة 45
أخبرتني مرح أنها ستأتي مع والدها لزيارتي عصر هذا اليوم.
مرح هي صديقتي وزميلتي في الجامعة, وهي ابنة السيد أسامة المنذر… مساعد وليد الأول في العمل… وشقيق المحامي يونس المنذر الرجل الذي أتى إلى مزرعة الشقراء يخبرها عن إرث عمها قبل شهور… والذي يعمل كذلك مع وليد…
ومرح رسامة بارعة… وهي شقيقة وتلميذة لأحد الفنانين الأساتذة المعروفين والذائعي الصيت على مستوى البلد…
كنت بطبيعة الحال لا أزال محبوسة على السرير الأبيض منذ يومين, معتمدة على الممرضات والسيدة ليندا في كل شيء.
كانت أعصابي منهارة تماما في اليومين السابقين… ولكنني اليوم أفضل بكثير والحمدلله.
إنها فترة الزيارة… وليد يقضيها كلها إلى جانبي… بينما تعود السيدة ليندا فيها إلى البيت…
وليد ذهب إلى عمله هذا الصباح وأتى إلي مباشرة بعد العمل… وها هو يجلس بقربي ويطالع إحدى الجرائد وعلى وجهه اهتمام ملحوظ…
يبدو أنه يقرأ أخبارا مزعجة,وأظنها عن الحرب… فهو مهووس بمتابعة تطوراتها وما يحدث في البلد أولا بأول…
على المنضدة المجاورة كان وليد قد وضع باقة رائعة من الورود الخلابة التي تبهج النفوس…
وعلبة كبيرة من الشوكولا الفاخرة التي وزع شيئا من محتواها على الأطباء والممرضات الذين يرعونني…
وألاحظ أن الرعاية في هذه المستشفى دقيقة جدا! الأطباء والممرضات يأتون لتفقدي بتكرار… حتى في أوقات الزيارة!
ها هو وليد يتثاءب من جديد! بين الفنية وأختها أراه يتثاءب أو يفرك عينيه… لاشك أنه لم ينم جيدا… وربما هو متعب ويريد أن يقيل… لكنه لم يعد للبيت بل أتى ليبقى معي… هذا يشعرني بالذنب!
إنه حنون جدا… أغدق علي عطفه وعاملني بمنتهى اللطف والاهتمام ورحابة الصدر في أزمتي هذه… حتى أنه… يساعدني في تناول الطعام!
بين لحظة وأخرى… أجر نظراتي وأحبسها بعيدا عنه, فتغافلني وتسلل خلسة إليه… مخترقة أسوار اللياقة والخجل!
إنهيتدي زي العمل… بذلة زرقاء اللون… أنيقة جدا… أراها للمرة الأولى… وقد صفف شعره بمستحضر يظهر الشعر وكأنه مبلل وتدلت خصلة طويلة لحد ما على جبينه العريض… فوق أنفه المعقوف مباشرة!
أرجو أن يكون منهمكا في القراءة وألا يلاحظ نظراتي الحمقاء!
طرق الباب…
“لا بد أنها مرح”.
أخذتني بالأحضان وأمطرتني بالقبل وكلمات المواساة والتشجيع… ولا أخفي عليكم أنها رفعت من معنوياتي بقر كبير…
وبدأت بعد ذلك تتحدث وبشكل مستمر…
نسيت أن أخبركم أن مرح ثرثارة ومرحة جدا كاسمها…
حلوة المعشر وطيبة القلب… تحب الحياة وتنفق على متعتها بسخاء! إنها موهوبة في الرسم مثلي وأخوتها الرسامون يقيمون معارض فنية دورية… وقد أخبرتني بأن معرضهم التالي عما قريب وأنها ستشارك فيه ودعتني أيضا للمشاركة…
الفكرة أبهرتني…! مرح فتاة رائعة… وأفكارها رائعة أيضا…
وجود مرح معي في الجامعة في الواقع أبهج حياتي كثيرا… وساعدني على تطوير علاقاتي بالزميلات… وزيارتها هذه لي فجرت ينبوعا من الأمل والتفاؤل في صدري وأزاحت جزءا كثيرا من حزني وكآبتي… الحمدلله
فيما نحن نتجاذب أطراف الحديث حول المعرض الفني المرتقب طرق الباب ثم فتح ببطء وسمعت صوت وليد يتنحنح مستأذنا الدخول…
قلت:
“تفضل وليد”.
ولما أذنت له بالدخول دخل وقال:
” المعذره… سآخذ هذه”.
وتوجه نحو الصحيفة التي كان يطالعها قبل قليل فأخذها ثم قال موجها الكلام إلي وعيناه مركزتان على الصحيفة:
“أبو عارف يبلغك السلام ويحمد الله على سلامتك يا رغد”.
قلت:
“سلمه الله. اشكره نيابة عني”.
وهم وليد بالمغادره فقلت:
“وعلى الورد كذلك وليد”
قال:
“بالطبع”.
ثم غادر…
كنت لا أزال أنظر إلى الباب حين سمعت مرح تقول:
“أوه! أهذا السيد وليد شاكر؟؟!!”
تعجبت والتفت إليها فوجدت الدهشه تعلو وجهها فسألت مستغربة:
“نعم,ولكن كيف تعرفينه؟”
ابتسمت مرح وقالت وهي لاتزال ترفع حاجبيها من الدهشة:
“الجميع يتحدث عنه! والدي وعمي وأخوتي! كلهم يتحدثون عنه! هذا هو إذن!!”
سألتها متعجبة:
“يتحدثون عنه؟”
ردت:
“نعم! كمدير لمصنع البناء! السيد وليد شاكر قال, والسيد وليد شاكر فعل, والسيد وليد شاكر ذهب, والسيد وليد شاكر عاد!! هذا هو السيد وليد شاكر!!”
وكان التعجب طاغ على تعبيرات وجهها!
قلت:
” ولم أنت مستغربه هكذا؟؟”
مرح أطلقت ضحكة خفيفة وقالت:
“لم أتوقعه أبدا شابا صغيرا! أوه إنه في مقتبل العمر ! أهلي دائما يصفونه بالسيد النبيل! يقولون أنه ذكي وجدي ومهذب, ومهاب… ولايضحك أبدا! تخيلته رجلا صارما منغلقا في منتصف العمر أو حتى بعمر والدي!”
ثم أشارت إلي وأضافت:
“وأنت أخبرتني أنه أبوك بالوصاية! حسبته أكبر بكثير !”
قلت وأنا ابتسم عفويا:
“إنه يكبرني بنحو 10 سنين فقط!”
قالت والضحك يمتزج بكلامها:
“وكيف تنادينه في البيت؟ أبي؟؟ أو ابن عمي؟ أو السيد وليد شاكر؟؟”
ضحكت بخفة لتعليق مرح… وعلقت:
“وليد فقط! كما اعتدت أن أناديهمنذ الطفولة… لقد ربيت معه في بيت واحد… بعد فقد والدي… وكثيرا ما كنا نلعب سويا… وقد كنت أعتبره مثل أمي وأنا صغيره! والآن صار مثل أبي!”
ويا للأيام…!
سرحت برهة لألقي نظرة استرجاعية على الماضي البعيد… حيث ككنت طفلة صغيرة غضة… عَنى لها وليد الدنيا بأسرها!
وحقيقة لا يزال!
انتبهت على صوت مرح تتابع حديثها وقد لمعت نظرة ماكرة في عينيها:
“أب شاب… ثري وقوي وذكي… ومهذب… و…”
وهنا طرق البااب ثانية… وسمعت وليد ينادي باسمي فأذنت له بالدخول…
“أرجو المعذرة… الحلوى للزوار”.
قال وهو يسير نحو المنضدة المجاور لسريري حيث علبة الشوكولا…
قلت:
“ولصديقتي أيضا من فضلك”.
إذ إنه يشق علي تحريكها من موضعي, خصوصا مع إصابة يمناي.
فحمل وليد العلبة واقترب منا ومدها إلى مرح:
“تفضلي أنستي”.
مرح أخذت تقلب عينيهابين أنواع الشوكولا في حيرة أيها تختار! وأخيرا اختارت
إحدى القطع وهي تقول:
“شكرا… سننتظر حلوى خروجك من المستشفى بالسلامة يا رغد”.
ابتسمت, أما وليد فعقب:
“قريبا عاجلا بحول الله… الحلوى والعشاء أيضا”.
واستأذن وانصرف حاملا العلبة إلى والد مرح…
هذه المرة كانت أعيننا نحن الاثنتان تنظر إلى الباب, ثم إلى بعضها البعض في الوقت ذاته.
ثم إذا بي اسمع مرح تقول:
“إنه عطر (عمق المحيط) الرجالي!”
نظرت إليها باستغراب وقلت:
“عفوا!؟”
ابتسمت وقالت:
“أهديت زجاجة مماثلة لشقيقي عارف قبل أيام! شذى قوي وراق… وباهظ الثمن!”
يا لـهذه الــــ مرح!
عقدت حاجبي وضيقت عيني ونظرت إليها باستنكار… ثم قلت:
“ماذا كنا نقول؟”
قبل أن يقطع حديثنا وليد.
أجابت مرح:
“شاب… ثري… وقوي… وذكي… وراق…”
وتوقفت برهة ثم برقت عيناها وأضافت:
“وجذاب!”
أوه يا إلهي!
وقبل أن أنطق بأي تعليق طرق الباب مجددا والتفت رأسانا بسرعة نحوه… لكن الطارق هذه المرة كان السية أم فادي… زوجة السيد سيف صديق وليد المقرب…